هو أبو الوليد أحمد بن زيدون المخزومي الأندلسي، ولد في قرطبة سنة 394هـ ونشأ في بيئة علم وأدب، توفي أبوه، وهو في الحادية عشرة من عمره، فكفله جده وساعده على تحصيل علوم عصره فدرس الفقه والتفسير والحديث والمنطق، كما تعمق باللغة والأدب وتاريخ العرب، فنبغ في الشعر والنثر .
أقام ابن زيدون علاقة وثيقة بشاعرة العصر وسيدة الظرف والأناقة ولادة بنت المستكفي أحد ملوك بني أمية، وكانت قد جعلت منزلها منتدى لرجال السياسة والأدب، وإلى مجلسها كان يتردد ابن زيدون، فقوي بينهما الحب، وملأت أخبارهما وأشعارهما كتب الأدب، وتعددت مراسلاتهما الشعرية ، ولم يكن بد في هذا الحب السعيد من الغيرة والحسد والمزاحمة، فبرز بين الحساد الوزير ابن عبدوس الملقب بالفار، وكان يقصر عن ابن زيدون أدباً وظرفاً وأناقة، ويفوقه دهاء ومقدرة على الدس .
لابن زيدون ديوان شعر حافل بالقصائد المتنوعة، طبع غير مرة في القاهرة وبيروت وأهم ما يضمه قصائدة الغزلية المستوحاة من حبه لولادة، وهو غزل يمتاز بصدق العاطفة وعفوية التعبير وجمال التصوير، ومن بين تلك القصائد (النونية) المشهورة التي نسج اللاحقون على منوالها :
أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْـلاً مِـنْ تَدانِيْنـا
وَنَابَ عَـنْ طِيْـبِ لُقْيَانَـا تَجَافِيْنَـا
ألا وقد حانَ صُبـح البَيْـنِ صَبَّحنـا
حِيـنٌ فقـام بنـا للحِيـن ناعِينـا
مَـن مُبلـغ المُبْلِسينـا بانتزاحِهـم
حُزنًا مـع الدهـر لا يَبلـى ويُبلينـا
أن الزمان الـذي مـا زال يُضحكنـا
أنسًـا بقربهـم قـد عـاد يُبكيـنـا
غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى فدعوا
بـأن نَغُـصَّ فقـال الدهـر آمينـا
فانحلَّ مـا كـان معقـودًا بأنفسنـا
وانبتَّ مـا كـان موصـولاً بأيدينـا
لم نعتقـد بعدكـم إلا الوفـاءَ لكـم
رأيًـا ولـم نتقلـد غـيـرَه ديـنـا
ما حقنا أن تُقـروا عيـنَ ذي حسـد
بنـا، ولا أن تسـروا كاشحًـا فينـا
كنا نرى اليـأس تُسلينـا عوارضُـه
وقـد يئسنـا فمـا لليـأس يُغرينـا
بِنتـم وبنـا فمـا ابتلـت جوانحُنـا
شوقًـا إليكـم ولا جفـت مآقيـنـا
نكـاد حيـن تُناجيكـم ضمائـرُنـا
يَقضي علينا الأسـى لـولا تأسِّينـا
حالـت لفقدكـم أيامـنـا فَـغَـدَتْ
سُودًا وكانـت بكـم بيضًـا ليالينـا
إذ جانب العيش طَلْـقٌ مـن تألُّفنـا
وموردُ اللهو صـافٍ مـن تصافينـا
وإذ هَصَرْنا غُصون الوصـل دانيـة
قطوفُهـا فجنينـا منـه مـا شِينـا
ليسقِ عهدكم عهـد السـرور فمـا
كنـتـم لأرواحـنـا إلا رياحيـنـا
لا تحسبـوا نَأْيكـم عنـا يُغيِّـرنـا
أن طالمـا غيَّـر النـأي المحبينـا
والله مـا طلبـت أهواؤنـا بــدلاً
منكم ولا انصرفـت عنكـم أمانينـا
يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ فاسق به
من كان صِرفَ الهوى والود يَسقينـا
واسـأل هنـاك هـل عنَّـي تذكرنـا
إلفًـا، تـذكـره أمـسـى يُعنِّيـنـا
ويـا نسيـمَ الصِّبـا بلـغ تحيتنـا
من لو على البعد حيًّا كـان يُحيينـا
فهل أرى الدهـر يَقصينـا مُساعَفـةً
منـه ولـم يكـن غِبًّـا تقاضيـنـا
ربيـب ملـك كــأن الله أنـشـأه
مسكًا وقـدَّر إنشـاء الـورى طينـا
أو صاغـه ورِقًـا محضًـا وتَوَّجَـه
مِن ناصع التبـر إبداعًـا وتحسينـا
إذا تَـــأَوَّد آدتـــه رفـاهـيَـة
تُومُ العُقُـود وأَدْمَتـه البُـرى لِينـا
كانت له الشمسُ ظِئْـرًا فـي أَكِلَّتِـه
بـل مـا تَجَلَّـى لهـا إلا أحاييـنـا
كأنما أثبتـت فـي صحـن وجنتـه
زُهْـرُ الكواكـب تعويـذًا وتزييـنـا
ما ضَرَّ أن لم نكـن أكفـاءَه شرفًـا
وفـي المـودة كـافٍ مـن تَكَافينـا
يا روضةً طالمـا أجْنَـتْ لَوَاحِظَنـا
وردًا أجلاه الصبـا غَضًّـا ونَسْرينـا
ويـا حـيـاةً تَمَلَّيْـنـا بزهرتـهـا
مُنًـى ضُرُوبًـا ولــذَّاتٍ أفانِيـنـا
ويا نعيمًـا خَطَرْنـا مـن غَضَارتـه
في وَشْي نُعمى سَحَبْنا ذَيْلَـه حِيـن
لسنـا نُسَمِّيـك إجـلالاً وتَكْـرِمَـة
وقـدرك المعتلـى عـن ذاك يُغنينـا
إذا انفردتِ وما شُورِكْتِ فـي صفـةٍ
فحسبنا الوصـف إيضاحًـا وتَبيينـا
يـا جنـةَ الخلـد أُبدلنـا بسَلْسِلهـا
والكوثر العـذب زَقُّومًـا وغِسلينـا
كأننـا لـم نَبِـت والوصـل ثالثنـا
والسعد قد غَضَّ من أجفان واشينـا
سِرَّانِ في خاطـرِ الظَّلْمـاء يَكتُمُنـا
حتى يكـاد لسـان الصبـح يُفشينـا
لا غَرْو فِي أن ذكرنا الحزن حِينَ نَهَتْ
عنه النُّهَى وتَركْنـا الصبـر ناسِينـا
إذا قرأنا الأسى يـومَ النَّـوى سُـوَرًا
مكتوبـة وأخذنـا الصبـر تَلْقِيـنـا
أمَّـا هـواكِ فلـم نعـدل بمنهـلـه
شِرْبًـا وإن كـان يروينـا فيُظمينـا
لم نَجْفُ أفـق جمـال أنـت كوكبـه
سالين عنـه ولـم نهجـره قالينـا
ولا اختيـارًا تجنبنـاه عـن كَثَـبٍ
لكـن عدتنـا علـى كـره عواديـن
نأسـى عليـك إذا حُثَّـت مُشَعْشَعـةً
فينـا الشَّمُـول وغنَّـانـا مُغَنِّيـنـا
لا أَكْؤُسُ الراحِ تُبدى مـن شمائلنـا
سِيمَا ارتيـاحٍ ولا الأوتـارُ تُلهينـا
دُومِي على العهد، ما دُمْنا، مُحَافِظـةً
فالحُرُّ مَـنْ دان إنصافًـا كمـا دِينَـا
فما اسْتَعَضْنا خليـلاً مِنـك يَحْبسنـا
ولا استفدنـا حبيبًـا عنـك يُثْنينـا
ولو صَبَا نَحْوَنا مـن عُلْـوِ مَطْلَعِـه
بدرُ الدُّجَى لم يكن حاشـاكِ يُصْبِينـا
أَوْلِي وفـاءً وإن لـم تَبْذُلِـي صِلَـةً
فالطيـفُ يُقْنِعُنـا والذِّكْـرُ يَكْفِيـنـا
وفي الجوابِ متاعٌ لـو شفعـتِ بـه
بِيْضَ الأيادي التي ما زلْـتِ تُولِينـا
عليكِ مِنـي سـلامُ اللهِ مـا بَقِيَـتْ
صَبَابـةٌ منـكِ نُخْفِيهـا فَتُخفيـنـا
وفيما يلى الشرح ....
شرح قصيدة نونية ابن زيدون
شرح نونية ابن زيدون
الفكرة العامة: محافظة الشاعر على حبه لولادة.
الأبيات ( 1- 10( والشاعر في هذه الأبيات، يذوب آسى وألما على فراق ولادة بن المستكفي حبيبته وعشقته، ويحترق شوقا إليها وإلى الأوقات الصافية المتعة التي أتيحت له معها . وفي ظلال هذه العاطفة المتأججة الملتهبة يقول شعره نابضا بالحياة مترجما عن الحب كاشفا عن الشوق.مختصر الفكرة:وصف لحال الحاضر ووصف الماضي ويتخلل هذا القسم أبيات الوفاء والحب والتجلد على الواقع الأليم.
أضحى التنائي بديلا من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
يستهل الشاعر قصيدته بالتوجع والتحسر على ما صارت إليه حاله فقد تغيرت من قرب بينه وبين محبوبته إلى بعد ونأي يتزايد مع الأيام. لقد تحول القرب بعدا وصار اللقاء جفاء وهو أمر يشقيه ويعذبه.
نجد الشاعر أنه استخدم ألفاظا جزلة في التعبير عن مدى وطول البعد وقوة الشوق حيث استخدم ألفاظ ذات حروف ممدودة يمتد فيها النفس ليعبر عن ألمه ونجد ذلك في جميع ألفاظ البيت الأول./ فهو يقول إن التباعد المؤلم بينه وبين محبوبه أضحى هو السائد بعد القرب الذي كان وحل مكان اللقاء والوصل الجفاء والهجر./ ومن الصور البيانية في البيت: الطباق بين ( التنائي و تدانينا ( التداني) وبين ( لقيانا وتجافينا ) .
من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم حزنا مع الدهر لايبلى ويبلينا
في هذا البيت يستفهم الشاعر بغرض التوجع والتحسر والألم الذي حل به ويطلب من أحد أن يبلغ الذي ألبسه هذا الحزن الدائم المتجدد وابتعد عنه( ويقصد الواشين الذين فرقوا بينه وبين محبوبته ) والصورة البيانية هو تشبيه الشاعرسيطرة الحزن على نفسه باللباس أو بثوب يلبسه ويكسو جسمه لا يقدم ولا يبلى بل دائم التجدد/ الغرض من الاستفهام في البيت أظهار الحزن والتوجع.
إن الزمان الذي ما زال يضحكنا أنسا بقربهم قد عاد يبكينا.
هذه هي الرسالة التي أراد الشاعر أن يوصلها إلى محبوبته حين قال في البيت السابق من مبلغ الملبسينا ماذا يبلغهم يا ترى ؟ يبلغهم أن ضحكه قد تحول إلى بكاء دائم أو أن الزمان السابق والذي مايزال يضحكنا مؤنسا لنا بذكراه الجميلة مع المحبوبة قد عاد وتبدل الحال فهو اليوم يبكينا ونلاحظ الشاعر لايتطرق إلى ذكر اسم محبوبته وذلك إجلالا لها وتعظيما لشأنها ووفاء لها./ والصورة البيانية تشبيه الزمان بأنسان يضحك وتشخيصه والتجسيم بالاستعارة المكنية / كما يوجد بين (يضحكنا ويبكينا) مقابلة.
غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا بأن نغص فقال الدهر: آمينا.